زوار الصفحة

الاثنين، 8 أبريل 2013

المقاصد العامة للشريعة الاسلامية - غيداء سرحان

حفظ الدين وقصور نظرية مقاصد الشريعة

إن الحديث عن العلوم الإسلامية حديث ذو شجون، يطول النقاش حول الكثير من جوانبه وقضاياه، وتتفرع الرؤى والتصورات حول هذه العلوم بين مؤيد لها ومحتضن لكل ماأنتجته من أفكار وأنماط وقواعد، وبين رافض لها مستبيح لقدسيتها ولكل ما أفرزته عبرالحقب والعصور. وهذا النقاش الطويل كان مرده اختلاف المعطيات والمنطلقات البحثية لكل تصور من هذه التصورات، إضافة إلى النتائج التي يحصل عليها هذا الفريق أو ذاك.
ومن هذه العلوم التي أسست لها الثقافة الإسلامية، ولا زالت نظريتها قائمة في المؤسسات المختلفة سواء كانت رسمية أو غير رسمية نظرية المقاصد، التي اعتبرت من الأمور التي تجاوزت القنطرة في منظور المؤصلين لهذا الفرع من المعرفة الدينية. وهي نظرية كانت ولا تزال محط تساؤل بين مؤيد لها، وناف لجدواها أو مقلل من شأنها. ولعل مثار الجدل الذي خلقته هذه النظرية نابع من عمق ما تحمله من معنى، وما يمكن أن تؤسس له من أفكار أو تصورات.

ولعل أبرز قضية قد تثيرها نظرية بحجم ما أصل له علم الأصول، هي دعوى هذا الأخير أن مدار الشرع حسب تصور الأصوليين له، يدور على كليات خمس تتمثل في حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. وقد مثلوا لكل كلية من هذه الكليات الخمس بأمثلة تطبيقية مستقاة حسب منظورهم الفكري والعقدي، مما قد يطلق عليه ثنائية الكتاب والسنة.
وأنا هنا إذ أريد أن أقنع نفسي بصدق ما تحمله هذه النظرية، ومشروعها الإنساني كما تزعم لنفسها، أريد في الوقت نفسه أن أخضعها للمجال التجريبي كما هو حال كل النظريات الفكرية التي يكون منشؤها العقل المجرد. وأنا هنا لا أريد أن أستبق النتائج لأعلن موقفي من هذه النظرية سلبا أو إيجابا. وإنما أهدف بشكل أو بآخر إلى وضع ما يمكن أن يكون لبسا نظريا عن طريق التلفيق والتزوير على المحك الحقيقي. فإن كان نافعا للناس حاملا مشروعه الإنساني فسيمكث في أذهان الناس وسيحمل مقوماتالدفاع عن نفسه.
وإذا كان مجرد قالب فارغ قد تمت زخرفته من الخارج ليسحر أعين الناس ويسترهبهم، فسرعان ما تنكشف حقيقته بمجرد إطلالة بسيطة على هذا الخواء.
ومن هذا المنطلق ستكون دراستنا من خلال التطبيق الفعلي على بعض معالم هذه النظرية ليتبين صدقها من زيفها. حتى إذا تهاوى هذا البعض سقط الآخر بالضرورة. وستكون مقاربتنا للموضوع من خلال التصور التالي:
1- نظرية المقاصد ونسبية علم الأصول:
لا بد لنا من إشارة هامة في هذا المقام، يجب استحضارها عند تناول أي قضية تهدف إلى مساءلة نقدية لعلم من العلوم خاصة العلوم المرتبطة بالدين. هذه المسألة
هي ما يمكن أن نصطلح عليه بنسبية العلوم الدينية. وقد يبدو الكلام تبسيطيا ومجرد تحصيل حاصل عند البعض. لكن الغوص في عمقه ومراميه يعكس حقيقة أزمة الواقع الديني بشكل كبير، حين جعل من هذه العلوم علوما فوق البشرية، وارتفع بها عن النقد والمساءلة من خلال مقولات وقواعد واهية، أصلت لبقائها محفوظة من سهام كل مقترب لبنيتها تحليلا أو نقدا. ونظرة إلى الواقع الإسلامي بعلومه المختلفة تصدق ماأكدناه، حينما اعتبر علومه قد جاوزت القنطرة ونضجت واحترقت، ومثل هذه المفاهيم الرامية إلى الارتفاع على سقف الإنسان، دونما أي منطق علمي.
وعلم الأصول واحد من هذه العلوم التي لم تنشأ من فراغ، ولم تحافظ على أسسها بالشكل المعروف حاليا، إلا من خلال هذا القواعد والقوالب الفكرية الفارغة المحتوى التي تفصل بين النظرية والتطبيق. كما أن المقاصد وهي فرع من علم الأصول لم تنلها أيضا يد النقد لما قد شرحناه آنفا. وعليه فلا بد من التذكير بنسبية هذه العلوم، لنخطو بجسارة في ظل ما هو نسبي بشري، ولنتمكن من تفعيل حريتنا وحقنا في ما نعتبره نقدا حقيقيا، لبنية هذه العلوم الإسلامية بعيدا عن المزايدات أو المناقصات.

ولعل الخلط المنهجي الذي يساهم في تكوين هذه النظرة السطحية للعلوم الإسلامية،وإحاطتها بالقدسية المزعومة هو وصفها:” بالشرعية أو الإسلامية “،
وبالتالي فأي اقتراب منها هو اقتراب من المحظور وانتهاك لحرمة الدين. وهو أمر مرفوضبالمنطق التاريخي والثقافي المؤمن بنشأة العلوم، وتأثرها بالعوامل المختلفة منزمان ومكان وسياسة واجتماع، وغير ذلك من الأمور.
على أن عدم الاكتراث بمفاهيم من قبيل ما شرحناه على المدى البعيد، تكون له مآلات كارثية في حجم ما نراه من أزمات سياسية واجتماعية يكون الدين أحد أطرافها. إذ وصف العلوم بالشرعية أو الإسلامية، هو منح لها طابعا إطلاقيا وشموليا يخترق حواجز الزمان والمكان، ويتناسى بأن هذه العلوم المسماة ” بالشرعية أوالإسلامية”، هي نتاج فكر بشري وظروف تاريخية معينة.
يجب أن يفهم هو أن العلوم الشرعية أو الإسلامية،ما هي إلا ثمرة تفاعل الإنسان مع الظاهرة الدينية. وهي في جوهرها رؤية إنسانية نسبية يتساوى فيها احتمال الخطأ والصواب، وتتأثر بالعوامل المختلفة التي تشكل عقل الإنسان من زمان ومكان وثقافة. فتغييب هذا الجانب المحوري في الدين، قد تكون له انعكاسات خطيرة، تنسف بجهود البشر في ترسيخ مبادئ العدل والسلام والإخاء، وتقضي بشكل نهائي على أمل التواصل الحضاري مع الآخر.

2- حفظ الدين وإشكالية الإرهاب العالمي:
تعد قضية حفظ الدين من الكليات الكبيرة في الترتيب المقاصدي لعلماء الأصول. فقد أولوهاعناية فائقة، وأنزلوها المنزلة الأولى في ترتيبهم لهذه الكليات. ولعل هذا الترتيب لم يكن خاضعا لمنطق العبث، أي لم يكن منشأه الفراغ. بل كانت هناك مرجعية فكرية ونصوص مؤسسة لهذا التصور الفكري، سواء اتفقنا مع هذه المرجعيات أم اختلفنا.
ولمعرفة مدى الخطر الكبير الكامن وراء هذه البنية الفكرية، سيكون لزاما علينا أن نقوم بنقد هذه الذهنية، انطلاقا من المنطق الذي تؤمن به. ولعل الخطأ الأول في هذا الترتيب أنه قدم عنصر الدين على عنصر الإنسان، ونسى أو تناسى أن الدين للإنسان وليس العكس، ولو نزعنا عنصر الإنسان، بصفته صاحب الريادة داخل المنظومة الكونية لاختلت المعادلة، ولما عاد للدين أي دور أو هدف. وقد يبدو لناظر أننا ننطلق من نظرة معادية للدين أو ما شابه. ولكن الأمر يختلف هنا ونحن نتناول قضية لها وزنها وتبعاتها على مختلف المستويات. فحفظ الإنسان هو أول كلي يمكن أن نتحدث عنه، ولاتوجد أي إيديولوجية سواء كانت دينية أو غير دينية، إلا ركزت على البعد الإنساني ليجد خطابها المصداقية والواقعية أيضا. والدين نفسه لا يخرج عن هذا الإطار العام لأي تصور فكري أو ثقافي آخر. فإذا غاب الإنسان غاب الدين، وغابت معه كل الحمولات الثقافية التي يدعو إليها. وبالتالي لا يبقى أي مسوغ لهذا الترتيب المغلوط والإيديولوجي في الوقت نفسه.
وقد بنى الأصوليون تصورهم هذا على مجموعة من الروايات، أسست لفكرة الجهاد من أجل حفظ الدين وغيرها من المفاهيم الثقافية المرتبطة بزمانها ومكانها. وهنا أستحضرمنشأ الخطر في البنية الأصولية، التي أسس لها علماء الأصول قديما وحديثا. فقد ركزوا بناء أصولهم على ثقافة عصرهم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولعل الرواية الحديثية بمختلف مستوياتها الفكرية أحد أطراف اللعبة، التي تواطأ فيها الكهنوت الديني بحليفه السياسي.
إن حفظ الدين بمفهومه الثقافي أسست له روايات بحجم ما ورد في الصحاح:” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله “. و:” نصرت بالرعب مسيرة شهر… ” و” من بدل دينه
فاقتلوه “، وغير ذلك من الروايات الملهمة للعقل الأصولي على مر الحقب التاريخية. وهي ثقافة لم تؤمن يوما إلا بدينها أو تصورها لهذا الدين، ولا تستسيغ
الاختلاف بصفته أحد الأمور المحركة لعجلة التاريخ. كما ساهم في هذا الخطأ التاريخي جملة من القواعد والمناهج خاصة التفسيرية منها، حينما اعتبرت النص القرآني نصا غيرمبين، لا يجب أن تتم قراءته إلا في ضوء أحداث التاريخ بخلفياته المعروفة.
والخطأ الثاني في المعادلة الأصولية، أنها لم تبن بناءها على قواعد القرآن والفكرالإنساني الحر، المؤمن بحرية العقيدة والفكر. وهي ليست بدعا من العلوم الإسلامية التي أبت أن تبتعد عن النص القرآني في الكثير من الأحيان، متوسلة إليه عن طريق الاستشهاد لخدمة هذا التوجه أو ذاك. وقد أكدت في مقال سابق أن الكثير من نصوص القرآن، تنطق بشكل واضح في تحميل الإنسان مسؤولية أفعاله إيجابا وسلبا، وتنهاه عن تعليقها بأسباب خارجية، وذلك حين ربط مسؤولية التغيير بالإنسان في قوله:” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “. فكل مخلوق مسؤول عن نفسه،تترتب على أفعاله نتائج تحدد مصير حياته، وعلاقاته مع بيئته، ووسطه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. هذه المسؤولية انبثقت من فكرة حرية الاختيار التي دعا إليها الدين عموما. وهي الكفيل الوحيد لصناعة السلام العالمي، وبناء الحضارة الإنسانية المتجاوزة للحساسيات الدينية والثقافية، وغير ذلك من الأمور التي تشعل فتيل الصراع والصدام بين الثقافات والحضارات، وتذيب جهود البشرية في بناء ثقافة السلام، الغائبة وراء الحسابات السياسية، أو التأصيلات الدينية الفاقدة للشرعية الإنسانية.فالدين سلوك رشيد لا سيف على رقبة الناس:” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي “. ولكل الحق في التدين أو غيره:” وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر “. ومن يحمل سيفه لإلزام الناس على تبني تصور معين، أوالركون في نمطية خبيثة، فهو مجرم بكل المقاييس سواء كانت دينية أو غير دينية:” فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر “.
غير أنه بالرغم من كل هذه البيانات القرآنية والمواقف البديهية، لأي ثقافة تحترم نفسها، إلا أن الثقافة الإسلامية بجميع مكوناتها، قفزت على هذا البيان العالمي
وضيقت من آفاقه الإنسانية، عبر قنواتها الفكرية خاصة علم الأصول و الفكر المقاصدي،الذي أسس لفكرة حفظ الدين عن طريق ما أسماه الجهاد. وهنا تحضرني إشكالية لطالما تناولها الكثير من الباحثين بدءا من عائشة بنت الشاطئ، وصولا إلى الأخ الكريم ابراهيم ابن نبي. وهي إشكالية تبقى لها أهميتها من الناحية المنهجية، وإن اختلفنا في تقييم نتائجها أو اتفقنا. إنها إشكالية المصطلح في القرآن أو ما يمكن تسميته بالاستعمال القرآني للألفاظ. والمهم في طرح مثل هذا التصور في المقاربة الدينية،هو تضييق المسار الروائي الذي احتوى النص الأصلي في الفهم الديني. فنكون بذلك قد قاربنا الموضوعية بالتزامنا ببنية النص الأصلية، دون اللجوء إلى ما قد يعكر علينا صفو فهمنا، أو يكون سببا في قراءات خارجة عن النسق الفكري للنص الأصلي. وذلك لن يتأتى إلا بالاحتكام إلى أسلوب القرآن نفسه، على هدي التتبع الدقيق بمعهود استعماله للألفاظ والأساليب داخل سياقاتها القرآنية. وهو أمر ضروري من الناحية المنهجية في مدارسة القرآن، بدل التفسير التجزيئي الذي أنتج فكرا تجزيئيا، يخدم التوجهات المختلفة ويبني لكل توجه مسارا خاصا.
والخطأ الثالث في عمق فكرة حفظ الدين، أنها أرادت أن تجعل تشريع الجهاد حسب فهمها للكلمة، مرده التأسيس لهذه الكلية المغلوطة. ولو تأمل الأصوليون قليلا لوجدوا أن كلمة الجهاد القرآنية، لا علاقة لها بما شحنه هؤلاء من مفاهيم ثقافية ارتبطت بواقع وزمان معينين. فالجهاد في القرآن ليس سوى بذل الجهد ومضاعفته، بما أوتي الإنسان من قوة تارة بالمال وتارة بالتضحية بالنفس، للوصول إلى ما يبتغيه الإنسان من كماليات الدنيا، وهو ضد أي تقاعس، أو كسل للنفس الإنسانية عن أداء دورها الريادي، المنبثق من مسؤوليتها الإنسانية:” إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم “. وليس هناك أي معنى للقتال، أو القتل داخل البنية اللفظية لهذه الكلمة، إلا ما شحنته أيادي من تلطخوا بدماءالناس، وجروا معهم النص القرآني للاحتجاج به من أجل مشروعية جرائمهم ضد الإنسانية.
ورسل الله لم يؤسسوا لفكرة القتل، كما هو حال جميع المصلحين قديما أو حديثا. بل كان كل عملهم مرتكزا على فكرة الإقناع بصدق الرسالة ومشروعها الإنساني:” فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا “، فبذل الجهد ومضاعفته كان من أجل تبليغ الكلمة وبالكلمة نفسها، ولم يكن يوما حملا للسيف. لأن من يحمل سيفا لن يحمل رسالة، ومن لا يحمل رسالة السلام، لن يكون إلا جبارا في الأرض مهما كانت ماهيته أوحجمه:” نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد”.

وهكذا كانت فكرة حفظ الدين مناخا ملائما أسسه الأصوليون، وبنى عليه صناع ثقافة الموت أرضية يجلبون بخيلهم ورجلهم على كل من خالفهم في الدين، أو حتى في فهمه. وساهمت ثقافة الرواية المحتكرة في إذكاء هذا البناء. وانطلاقا من هذا التصور نرى بأن بنية العلوم الإسلامية في شكلها الحالي، بنية محتضنة لفكرة الصدام الحتمي تحت مسميات وشعارات مختلفة. ولا يمكن أن نؤسس لإصلاح فعلي بعيدا عن المدارسة النقدية لهذه العلوم، الضاربة في التناقض الصريح مع مقررات الإنسانية. وأي إصلاح يغيب المقاربة البنيوية في نشأة هذه العلوم، يجد مآله الخسران والفشل الذي يكون الإنسان أحد ضحاياه الأساسيين.

كتاب مقاصد الشريعة الاسلامية

مقاصد الشريعة الإسلامية
تأليف العلامة محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله


حمل هنا 


..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق