زوار الصفحة

الاثنين، 1 أبريل 2013

ريناد الحازمي - الغلو في الدين -



الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الأكرمين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
تمهيد:
تأتي أهمية هذا الموضوع والحديث عنه لكثرة ما يعقد من مؤتمرات وتقام ندوات يتحدث فيها عن التطرف ويريد به أصحابه الغلو، ويحصل هذا ممن يكونون هم بأنفسهم بحاجة شديدة إلى معالجة الغلو الذي يتمسكون به، ويقومون به حتى في حكمهم على الآخرين يقعون في الغلو.
وأنك تجد من يتكلم عن هذا الأمر وهو لا يحسن الكلام فيه ولو سئل عن المعنى اللغوي للغلو في الشرع واللغة لأبلس وحار ولما استطاع أن يأتي بإجابة مقنعة، بدليل أن مثل هؤلاء قد يطلقون التطرف والتشدد على من يتمسكون بواجبات الإسلام، ويأتي على رأس هؤلاء بعض فرق المبتدعة كبعض الصوفية والمعتزلة، بل وأصحاب الغلو كالروافض وغيرهم من العقلانيين والعلمانيين، ولو نظرنا في واقعهم لوجدناهم بحاجة إلى معالجة الغلو الذي هم فيه قبل أن يتكلموا في الشباب الملتزم بدينه، ولا شك ولا ريب أن الغلو في الشريعة الإسلامية مردود وليس مقبولاً لأنه مخالف للكتاب والسنة، ولما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم من هذه الأمة، وأنه يتنافى مع شريعتنا وديننا الإسلامي الحنيف الدين قام على اليسر والتسامح والعفو والصفح.
وقبل الدخول في الموضوع لا بد أن نعرج على كتب اللغة لنستوضح معنى الغلو حتى يسهل لنا معرفته والحديث عنه من خلال لغة العرب والشرع المطهر.
ـ المعنى اللغوي للغلو:
جاء معنى الغلو في لغة العرب كما هو في مقاييس اللغة لأبن فارس، ولسان العرب لابن منظور، وتاج العروس شرح القاموس، وفي غير ما من معاجم وكتب اللغة على أن هذه الكلمة تدل على مجاوزة في الحد والقدر، ولذلك يقال: غلا يغلو غلواً إذا ارتفع.
ويقال غلا الرجل في الدين والأمر غلواً إذا جاوز حده ومعناه عدم الاقتصار على الوسطية وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما هو في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) ([2]) بأنه: (مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في مدحه وذمه على ما يستحق)، وقد ذكر ذلك وقريباً منه الشاطبي في كتابه (الاعتصام)، والحافظ ابن حجر في الفتح وصاحب كتاب تيسير العزيز الحميد، وقالوا: إن الغلو (هو الزيادة ـ والزيادة لفظ عام ـ وسواء كانت هذه الزيادة اعتقادية، أو عملية أو حكماً على الآخرين.
ملامح الغلو:
بعد أن ذكرنا المعنى اللغوي للغلو لا بد أن نذكر ملامح الغلو أو مظاهره ليتضح على أنه شامل وليس خاصاً في مسألة علمية أو عملية معينتين.
1) فمن ذلك تفسير المفسر للنصوص مشدِّداَ بما يتعارض مع سمة الشريعة ومقاصدها، فيشدد ذلك المفسر على نفسه وعلى الخلق وهذه سمة من سمات الغلو ولمحة من لمحاته.
2) ومن ذلك أيضاً التكلف والتعمق في معاني النصوص، وتحميلها ما لا تحتمل من أجل موافقة الرأي والمذهب.
3) ومن ذلك ما هو متعلق بالأحكام الشرعية كإلزام النفس والآخرين بما لم يلزم الله - سبحانه وتعالى – به، ويفعل الإنسان ذلك ترهباً أو تقرباً إليه مثل تحريم الطيبات، وقد أباحها الله - سبحانه وتعالى - وهذا ما أخبرت عنه التوراة والإنجيل، ومما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته قال - تعالى -: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..الخ الآية) ([3])، فإن هؤلاء كونهم محرومين من الطيبات، ويعتبر هذا من الآصار والأغلال والرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليضع عنهم ذلك لأن هذا من الغلو.
4) أيضاً من علامات الغلو وملامحه عدم الأخذ بالضرورات التي الأصل فيها المنع، ولكن تجوز عندما تأتي أسبابها ومعلوم أن للمسافر أحكاماً وللمريض والشيخ الكبير أحكاماً، وإن لضعيف العقل كذلك أحكاماً، وهذه الأحكام تعتبر أحكاماً طارئة يأخذ بها وليست هي الأصل إذ الأصل استقرار الأحكام الشرعية الثابتة في حق الأمة ولكن المشقة تجلب التيسير.
5) كذلك من ملامح الغلو ما يتعلق بالموقف من الآخرين حيث أن البعض إذا مدح غالى في المدح إلى حد أنه لا يكاد يقر بخطإٍ في ممدوحه، ويكاد يشهد له بالعصمة وإذا أبغض قال في مبغضه أو خصمه أقوالاً قد يفهم في البعض منها تكفيره ـ والعياذ بالله ـ، وليس من الغلو التمسك بالحق والرجوع إليه اعتقاداً أو عملاً أو دعوة أو طلب علم وحسن تصور أو الإكثار من النوافل من صلاة وصيام أو زكاة وصدقات وأدعية بل هذا مناف للغلو، وليس من الغلو أيضاً إطلاق اللحى وقصر الثياب وعدم جر الإزار خيلاء، والتزام النساء بالحجاب الشرعي كما يريد بعض من يتكلم في ذلك وهو قاصر.
أنواع الغلو: الغلو على ضربين: ـ وكلاهما خطير ومذموم ـ
1) أحدهما: اعتقادي وهو أشدها كما هو الحال في منهج الفرق المخالفة من المبتدعة وأهل الزيغ والضلالة التي انشقت وابتعدت عن منهج أهل السنة والجماعة، وجاءت بطامات في باب ما يلزم من الأمور العقدية كالكلام في باب الأسماء والصفات، وتوحيد الله - سبحانه وتعالى - في عبادته، وما يتعلق ببعض فرق الغلو في الصحابة وآل البيت، وكذلك من القول والاعتقاد بالعصمة لأئمتهم ومشايخهم.
1) ثانيها: وهو الغلو العملي ويتمثل في أن يجعل الإنسان النوافل على نفسه واجبات، وأن يترك لأئمتهم المباحات على نفسه كالزواج والبيع والشراء، والطعام والشراب، بمعنى أن يلزم نفسه بالصوم مطلقاً في النهار ويلزم نفسه بالقيام في الليل مطلقاً، ويترك زواج النساء ولا يأكل اللحم، وهذه صورة من صور الغلو العملي، وقد أنكرها النبي صلى الله عليه وسلم ونهى أصحابه عن فعل ذلك كما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك: ((أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) ([4])، وترجع كل مظاهر الغلو إلى هذا التقسيم، وتدخل تحته وهو أقرب تقسيم للغلو.
ظاهرة الغلو وقدمها في التأريخ:
تعود هذه الظاهرة وتمتد جذورها إلى القدم وهي سمة في الأمم الماضية وليست خاصة بهذه الأمة فكما أنه وجد في هذه الأمة غلو فقد كان في الأمم الغابرة غلو أيضاً، وهذا إنما هو تبع للأمم السابقة لما جاء من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - النبي صلى الله عليه وسلم:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه))، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن)) ([5])
وما من معصية في هذه الأمة إلا وهي متأثرة بها بالأمم السابقة وفي عصرنا هذا كان الغلو في بعض المسلمين وكان أكثر منه الغلو في الأمم الكافرة الأخرى، فكما أنه كان الغلو في الأمم الماضية كان في هذه الأمة كذلك قال - تعالى -: (يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) ([6])، وقال - تعالى -: (قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) ([7]).
ولقد ضرب الله - سبحانه وتعالى - لنا أمثلة من غلوهم في كتابه قال - تعالى -: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا أن يعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه  عما يشركون) ([8]).
ولا ننكر حصول الغلو في هذه الأمة أيضاً كما هو حال الفرق المخالفة من هذه الأمة من لدن الخوارج والمعتزلة، وفرق التعطيل والتشبيه، وغيرهم من أهل الضلال والانحراف.
ولكن العجيب والغريب أن نقصر تهمة الغلو والتطرف على المسلمين فقط مع أنها من أخلاقيات غيرهم وسوهم من اليهود والنصارى ومن سار على دربهم واحتذى حذوهم.
وقد ذكرت بعض المجلات الأمريكية في دراسة عامة عن الإرهاب والتطرف في العالم وجود (370) منظمة إرهابية (63) منظمة تعيش وتباشر عملها من حيث الجملة في (120) دولة، و(43) في أوربا و(22) في أمريكا اللاتينية، (6%) في الولايات المتحدة، والباقي (15%) كلها في الشرق الأوسط فانظروا كيف قصرت التهمة على المسلمين ولكن تعالوا بنا إلى رئيس إحدى المنظمات الهندوسية في الهند يقول: " الهند هذه هندوستان ليست إلا للهنود من أراد أن يبقى على الإسلام فليذهب إلى جزيرة العرب " أليس هذا من الغلو، ولذلك فهم يذبحون المسلمين أعظم من ذبح المسلمين للأبقار، ومثلهم السيخ في الهند نفسها والمنظمات البوذية التي تقتل المسلمين في تايلند وفي كمبوديا وفي بورما وغيرها من دول جنوب شرق آسيا، ولا ننسى المنظمات اليهودية التي أسست من بداية هجرة اليهود إلى دولة فلسطين بعد احتلالها وهو التي ما زالت تنـزل بالمسلمين العذاب والويل، وتنكل بهم وتفعل المذابح تلو المذابح على مرأى ومسمع من العالم أجمع، ويضاف إلى ذلك ما مارسه حزب الكتائب في لبنان، وما يوجد من تحرشات من أقباط مصر، وفتن نصارى جنوب السودان، ومع هذا فلا زالت التهمة قائمة على المسلمين دون غيرهم، وانظروا ماذا بقي للمسلمين في الشرق الأوسط من تلك النسبة التي ذكرت وهي (15%)؟ بقي شيء ضئيل ومع ذلك فهم يدفعون عن أنفسهم إذا غزوا في أفغانستان أو فلسطين أو ا لعراق، وإذا أراد عدوهم أن يحارب دينهم ويحتل أراضيهم وينتهك أعراضهم، ويدنس مقدساتهم دافعوا عن ذلك إذاً فعلام هذه الضجة الإعلامية بتوجيه تهمة الإرهاب والتطرف، وإلصاقها بالمسلمين؟ ولماذا يوجه الإعلام في أراضي المسلمين حربه على كل شيء بمجرد وجود نسبة ضئيلة من ردود الأفعال تجاه ما يقوم به أعداؤنا من اليهود والنصارى والعلمانيين في مشارق الأرض ومغاربها من احتلال للأرض، وانتهاك للعرض وتدمير للمنازل، وقتل للشيوخ والأطفال والنساء؟ فهل بعد هذا يعقل أن يتهم المسلمون بما ليس فيهم وتقصر تهمة التطرف والإرهاب على المسلمين دون غيرهم؟ هذا والله من الظلم والحيف بمكان، ومن الغلو فإلى الله المشتكى، وهو نعم الوكيل.
أسباب الغلو:
يرجع الغلو وتعود أسبابه إلى مخالفة الشريعة الإسلامية وهي بطبيعتها شريعة سهلة ابتداء، وعندما تحصل الأسباب المؤدية إلى الأخذ بالرخص يكون العمل بها، وهي للتخفيف مندرجة تحت قاعدة من القواعد الفقهية الكبرى الخمس المتفق عليها بين الفقهاء المسلمين والتي هي:
* القاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها.
* القاعدة الثانية: اليقين لا يزول بالشك.
*القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير، ومعظم الرخص تدخل تحت هذه القاعدة والشريعة الإسلامية كما ذكرنا ابتداءً ميسرة في أحكامها قال - تعالى -: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ([9]) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بالحنيفية السمحة))([10])، وقوله: ((ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبة))([11]).
وتأتي الرخص في سائر الأبواب حين يحتاج إليها.
القاعدة الرابعة: الضرر يزال.
القاعدة الخامسة: العادة محكمة.
أسباب الغلو:
والغلو الذي يتحدث عنه له أسباب ودوافع كلها ترجع إلى المخالفة للشرع الحنيف.
فمن أسباب الغلو:
1) الجهل: وهو رأس كل بلية، والجهل كما يقول الدكتور اللويحق: يدخل تحته الجهل بالكتاب والجهل بالسنة والجهل بمنهج السلف الصالح و بمقاصد الشريعة ورعايتها ورعاية رتب المصالح والمفاسد إذن الناس فيهم الكافر والمنافق والفاسق والمبتدع والمسلم، ولأجل ذلك فالخوارج يكفرون صاحب الذنب والمعصية.
ومن الجهل كذلك الجهل بلغة العرب والتأريخ.
2) الإعراض عن العلماء والبعد عنهم، وعدم التلقي منهم وإقصاءهم عن مواطن التأثير وصنع القرار؛ لأن الذي لا يأخذ عنهم قد يميل إلى الفتور فيتساهل، وإلى التشدد فيغلو، وللإعراض عن العلماء أسباب قد تعود بعضها إليهم فمن ذلك تقصيرهم في أداء واجبهم بالنصح والتوجيه والإرشاد، أو أن يكون بعضهم صاحب فتنة، أو أن يكون بوقاً من الأبواق التي تجنح إلى الغرب فلا يسمع صوتاً إعلامياً أو دعوة إلى محاربة الإسلام والمسلمين ورميهم بالتفرق والتشدد إلا وشارك معهم بالقول وساندهم بالفعل، ومن أسباب الإعراض عن العلماء الحملة الظالمة عليهم، وتشويه سمعتهم من قبل وسائل الإعلام، وإلصاق التهم بهم، ومع ذلك فلا ينبغي تصديق ما يشاع عنهم بل يجب التصدي لذلك والدفاع عنهم.
3) التحريف للمعاني وإتباع المتشابه وعدم الجمع بين الأدلة، وذلك بأخذ دليل واحد وترك بقية الأدلة كما هو الحال عند الغلاة من الخوارج والمعتزلة عندما أخذوا بأدلة الوعيد ولم يأخذوا بأدلة الوعد والرجاء.
4) التعامل المباشر مع ظواهر النصوص من القاصرين في الفهم، من غير الرجوع إلى العلماء، ومثال هذا ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت)) ([12])، فمثلاً لا يفهم من هذه الحديث إلا أنه الكفر المخرج من الملة، ولا يفهم على أنه كفر دون كفر أو كفر النعمة.
5) الاجتهاد من غير أهله والكلام في الأمور الخلافية والانشغال بأحاديث الفتن، وقرب ظهور المهدي، واستعجال النصر والتفاؤل بتحقيقه: إذ البعض يحسب لذلك حساباً بشرياً على أنه قد آن أوانه، وحلّ زمانه فيتصرف تصرفات تؤدي إلى الغلو وإحداث الفتن التي تعود على المسلمين بالهلاك والويل.
6) الطبيعة الشخصية أو العوامل النفسية والفتوة الموجودة عند الشباب: إذ الشباب شعلة من النشاط فهو جاهز للتصرف والعمل ولذلك قيل: (مر الشباب ولا تستشر، واستشر الشيوخ لتستفيد).
7) اتباع الهوى والجدل بالباطل، واختلال مناهج التعليم، والتشجيع على الطائفية، والحزبية والعنصرية.
8) غياب شرع الله في الأرض وعدم تحكيمه في كثير من البلدان، والفساد العقائدي وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذلك الاستهزاء بأهل الدين من العلماء والدعاة، وغيرهم من الملتزمين، والسخرية من شعائر الإسلام ومناهجه.
9) العنف والتعذيب من قبل الأنظمة الحاكمة: وأقرب مثال على هذا ما صنعه جمال عبد الناصر من الاعتقالات والتعذيب للإخوان المسلمين في مصر أيام حكمه حتى أورث ردة فعل عندهم حتى وقعوا في فتنة التكفير.
10) ومن ذلك الانحلال الخلقي والسلوكي في ظل غياب دور العلماء والأخذ عنهم واستشارتهم وانتشار العلمانية الغالية في المجتمعات المسلمة التي تحارب كل ما يمت إلى الشريعة بصلة.
11) الهزائم العسكرية والسياسية التي ألحقت بالمسلمين، وآخرها سقوط الدولة العثمانية، أضف إلى ذلك الهزائم التي مُني بها الجناح القومي العربي تجاه إسرائيل، وغياب البدائل للخروج من الضعف الحاصل.
وهي أسباب قد يوجد غيرها وستجدها في الموسوعة التي تحدثت عن الغلو وأسبابه وعلاجه للشيخ الدكتور اللويحق.
الآثار المترتبة على الغلو:
ظاهرة الغلو من الظواهر المردودة وغير المقبولة مقبولة، وقد جاءت الشريعة الإسلامية في النهي عنها والتحذير منها وذلك لما يترتب عليها من الآثار والأضرار ومنها:
1) الضلالة بعد الهدى؛ لأن الغلو ضلالة وزيغ، والغالي يحرم على الناس ما أحل الله، ويشرع لهم خلاف ما أنزل الله وبذلك يصرفهم عن الله، واتباع مرضاته وهذا أثر خطير.
2) الاستدراك على الشريعة وتنحيتها عن الحكم: ولذلك فالغلاة والمبتدعة والعلمانيون والعقلانيون لسان حالهم تقول: أن الشريعة ناقصة وأنهم سدوا الفراغ الذي تركه النبي - صلى الله عليه وسلم – لهم، وأن الشريعة مرنة وتتغير وتتقلب بتقلب الأحوال والأزمان بما يناسب شهواتهم، وأن فيها نقصان عن حاجة الناس فلا بد من تكميلها.
3) تشويه صورة الإسلام عند غير المسلمين عندما يفهمون على أن الإسلام يمثله مجموعة من الغلاة المعينين، وأقرب مثال على هذا توجه حوالي مليونين من الشيعة إلى كربلاء أخذوا يضربون رؤوسهم ويسفكون دماءهم والعالم يشاهد طعنهم أنفسهم وسفك الدماء.. لما ذا ؟! قالوا من أجل الحسين - رضي الله عنه - وهم من قتله، وسفك دمه قبل ألف وثلاثمائة سنة تقريباً، وهم معروفون عبر التأريخ بمكرهم وتحالفهم مع الأعداء كما حصل ذلك منهم مع الصليبين، وأيام التتر والذي يحصل في الآن القريب على أرض أفغانستان والعراق ولذلك فليس بعيداً منهم تشويه الإسلام والتعاون مع غير المسلمين للقضاء عليهم، ويكفي للتنصير من الإسلام هذا المشهد من الغلاة.
4) الوقوع في شر المعاصي والبدع والفسق، أو في تغيير المنكرات بمنكر أكبر منه ذلك من البعد عن الله - سبحانه وتعالى - لأن صاحب البدعة، والغلو بعيد عن الله- تبارك وتعالى -، وعن مرضاته.
5) حصول التشديد من الله - سبحانه وتعالى - وتضييع الحقوق وقتل أهل الإسلام، وترك أهل الآثام.
وهذا بعض ما ذكرناه ولو استفضنا الآثار بأجمعها، أو كلها لم سمح لنا المقام بذلك ولو لم يكن من الآثار إلا هذا لكفى.
أمثلة وصور من الغلو:
هناك من الأمثلة الكثير والكثير من صور للغلو وسوف نذكر طرفاً منها والتي أهل السنة والجماعة فيها وسط بين الغلاة والجفاة.
1) فمثلاً غلو النصارى في الصالحين والأنبياء، وعبادتهم لهم ورفعهم إلى مصاف التوحيد والألوهية، وكذلك اليهود في قتلهم للأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس وإيذائهم لهم وعدوانهم على الله وتجرؤهم عليه، فكلاهما تجاوز الحد ووقع في الغلو ولذلك فقد قال الله - تعالى -عنهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ.. الآية) ([13])، وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ([14]).
2) ومن ذلك غلو الرافضة في أئمتهم وتقديسهم لهم يقول في ذلك أحد كبارهم ورجالاتهم وهو الخميني: (إن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مكانة لا يبلغها ملك مقرب، ولا نبي مرسل)؛ لأنهم معصومون عندهم كما يدعون، وقد ذكر صاحب الكافي وقاله في بحار الأنوار المجلسي (من الأئمة اثنا عشر والإمامة مقتصر عليهم ومن اعتقد أن إمام غيرهم فقد كفر، ومن اعتقد من الرعايا أن إماماً واحداً غير الاثني عشر عبر التاريخ يحق له أن يطاع فقد كفر.. )، فانظر هذا معتقدهم فقد كفرو جميع المسلمين ومن حكمهم وهذا مذهبهم ومنصوص عليه في كتبهم، وإن استخدموا التقية والكذب وهو أعظم صور الغلو وتجاوز الحد.
3) ومن أمثلة الغلو ما هو موجود عند بعض الصوفية من الشركيات والبدع من إحياء للخرافات وإقامة للمزارات التي ما أنزل الله بها من سلطان وتتنافى مع حقيقة التوحيد والعبودية لله - تعالى - يقول بعضهم على لسان الجيلاني:
كل قطب يطوف بالبيت سبعاً *** وأنا البيت طائف في الخيام
4) ومن الأمثلة في واقعنا واقع الحركات الإسلامية من الغلو في العمل الجماعي ويصل بالبعض في فهم العمل الجماعي أنه هو وجماعته على الحق ومن فارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه مع أن العمل مع الجماعة والعمل الجماعي لا غبار عليه لكن أن تنـزل النصوص الواردة التي جاءت في خليفة المسلمين وجماعتهم على جماعتك فهذا والله من الغلو، ويلزمك إن تقاتل الآخرين حتى ينضووا تحت لوائك وينقادوا لك.
5) ومن الغلو أيضاً في واقعنا من التبديع التفسيق على غير هدى من الله أو برهان، فمثلاً تجد البعض إذا خالفته في جزئية أو مسألة اجتهادية من المسائل التي يصوغ فيها الخلاف، وهي قابلة للنقاش أو الأخذ أو الرد يحكم عليك بالبدعة والضلال، أو الانحراف والعدول عن الصراط المستقيم.
6) ولا بأس من أن نذكر صورة من صور الغلو في واقع بعض المحسوبين على المثقفين في بلدنا يمن الإيمان والحكمة يأتي أحدهم ويكتب عن الملتزمين بالإسلام ومنهجه ويصفهم على أنهم غلاة متطرفون ويقول (على الحكومة أن تكتم أفواه الخطباء وعليها أن تعلم أن الإرهاب الذي تتحدث عنه أمريكا ووسائل الإعلام ليس هو القاعدة ولا أسامة بن لادن وإنما الأشرطة والكتب والمجلات) وينكر على الحكومة سكوتها على هذا مع أنه يتناقض في كلامه ويطالب الدولة بعدم التضييق على الحريات والأحزاب وأن هناك تضييقاً على الحريات من ممارسة الديمقراطية ومصادرة الحقوق ويقول ليس في اليمن ديمقراطية ثم بعد ذلك يطالب الحكومة بتكميم أفواه الخطباء والتضييق عليهم فيا للعجب من هذا التناقض والاستعداء على الآخرين وهذا من أعظم الغلو وصور الغلو وأمثلته كثير ونكتفي بما ذكرناه ففيه ا لكفاية.
علاج الغلو في الدين:
لقد جاءت الشريعة الإسلامية باليسر والتيسير وهي ابتداءً ميسرة وجاء النهي عن الغلو وذمه وعدم التشدد ودعت إلى الرأفة والرحمة والرفق بالنفس ومدحت التوسط والاعتدال في كل شيء وقد حاول معالجة لغلو أصناف من الناس حينما برزت هذه الظاهرة واقعياً واستهلكت إعلامياً.
فممن عالج الغلو، وأراد معالجته الغربيون فعقدوا لذلك المؤتمرات وأقاموا الندوات وألفت في ذلك المؤلفات وشاركت الكثير من الأنظمة والحكومات وتبعهم في ذلك المثقفون والصحفيون إلا أن بعضهم كان يفتقد المرجعية أو لديه لبس وخلط في المفهوم اللغوي للغلو فهو ليس متضلعاً في علم الشريعة الإسلامية أو يتكلم عن الغلو وهو لا يحارب غلواً بل يحارب حقاً ويقع في أقبح أنواع الغلو أو أن يعالج الغلو بغلو في أن يتخذ ذلك ذريعة للنيل من الآخرين والطعن فيهم وعدم تحري الإنصاف والعدل بل وصل الحد ببعضهم من السخرية والاستهزاء بالدين والعلماء والدعاة والملتزمين والشعائر الإسلامية وعندما برزت هذه الظاهرة بما يسمى بالتطرف (الغلو) قام العلماء بواجبهم في التحذير منها وحددوا مفهوم الغلو وذهبوا إلى معالجته بالأدلة الشرعية ودعوا إلى معالجته بحكمة وبرفق وببصيرة ومنهم الشيخ ابن باز وابن عثيمين والشيخ محمد ناصر الدين الألباني عليهم رحمة الله وممن كتب في ذلك الدكتور القرضاوي والشيخ ـ جاد الحق شيخ الأزهر سابقاً ـ وغيرهم وذهبوا إلى معالجته بالطريقة الشرعية ومن ذلك أنهم:
1) دعوا إلى إزالة أسباب الغلو والتزام منهج أهل السنة والجماعة ونشر مذهبهم.
2) والعلم بحقيقة الإيمان وعلاقته بالأعمال والإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم وضبط منهج الاستدلال والاستنباط فضبط منهج استعمال الألفاظ الشرعية.
3) التلقي عن العلماء ورعاية حقوقهم.
4) العناية بمناهج التعليم.
5) تطهير الدساتير من القوانين الوضعية.
6) تحكيم شريعة الله في الأرض.
7) ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
8) منع دعاة الإلحاد والفسق والفجور من نشر أفكارهم وانحرافاتهم وحماية الدين من المستهزئين ومعالجة الفساد العقائدي والأخلاقي والسلوكي.
9) دعوا إلى مناظرة الشباب الغالي ومعالجة الغلو الحاصل عندهم بالحوار.
10) دعوا إلى المعالجات الأمنية للفتن والمشاكل وإلى العدل وتطبيق شريعة الله في الأرض.. وهذه الظاهرة لا نحتاج إلى الغرب لمعالجتها فهم لو عالجوا وتكلموا عن الأصولية فلا يقصدون بها إلا غلاة البروستانت الذين يفهمون الإنجيل فهماً حرفياً ولا يرون تفسيره كالكاثوليك والذين منهم الآن الأصوليون حكام أمريكا فهم بروستانت وقيل لم يحكم أمريكا من الكاثوليك إلا (جون كنيدي) أما بقيتهم إلى بوش الابن فهم من غلاة البروستانت والبروستانت هؤلاء الأصوليون هم قريبون من اليهود بل إن في اعتقادهم أن اجتماع اليهود في فلسطين يعني المرحلة الأخيرة لنزول المسيح - عليه السلام - ولن ينزل المسيح إلا إذا اجتمع اليهود في فلسطين وهؤلاء ينظرون إلى الأصولية عندهم بمفهوم الغرب لها وينظرون لها من ناحية علمانية، ولذلك فهم قد فرغوا مع الباباوات الذين يحرمون ما أحل الله، ويحرمون الصناعة ويحاربون كل جديد في أوربا حتى قامت الثورة الإلحادية عليهم، فأقصتهم وانتهوا إلى قاعدة (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)، وينسون أن الإسلام ارتبط فيه المصحف بالسيف والحاكم بالشريعة، ولم يعرف المسلمون انفصالاً بين السياسة والحكم وبين الدولة، والدين والمجتمع إلا في هذا الوقت عندما حاك الغرب مؤامرته على المسلمين.
وليتق الله المسلمون حكاماً ومحكومين، وأن يكونوا صفاً واحداً فإن الهجمة الصليبية ستأتي على الكل،… وعلى الحكام أن يكونوا قريبين من شعوبهم قائمين بالعدل محاربين للظلم، وأن يعملوا لنصرة قضاياهم، ويكونوا سداً منيعاً ضد مخططات الأعداء واستهدافهم للأمة في جميع مقوماتها ومقدراتها.
نسأل الله أن يرزقنا الاعتدال ويجنبنا الإفراط والتفريط وأن يجعلنا من خير أمة أخرجت للناس وأن يعيد لهذه الأمة عزها ومجدها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير.
* أصل هذا الموضوع محاضرة ألقيت في صنعاء يوم الاثنين لثمان مضت من شهر جمادى الأولى 1425هـ الموافق30/6/2004م قام بتفريغها الأخ: سلمان العماري..
([1]) اقتضاء الصراط المستقيم: 1 / 289.
([2]) سورة الأعراف 157
([3]) البخاري 5063 في النكاح باب: الترغيب في النكاح، ومسلم 1401 في النكاح.
([4]) أخرجه البخاري (رقم 3269) ومسلم (رقم 2669
([5]) سورة النساء 171
([6]) المائدة 77
([7]) سورة التوبة 30
([8]) البقرة (185)
([9]) رواه الإمام أخمد في المسند ج5 / 266 عن أبي أمامة بلفظ: إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها.. )
([10]) صحيح البخاري رقم 38.
([11]) صحيح الإمام مسلم رقم (67) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
([12]) سورة النساء أية 171
([13]) سورة آل عمران آية 21

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق